فصل: حُكْمُ السِّحَاقِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَطْءَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرْجَيْنِ زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِي أَحَدِهِمَا سَوَاءٌ أَنَزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ. فَإِنْ غَيَّبَ بَعْضَ الْحَشَفَةِ، أَوِ اسْتَمْتَعَ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ عُزِّرَ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَتَعْزِيرُهُ بِتَغْيِيبِ بَعْضِ الْحَشَفَةِ أَغْلَظُ مِنْ تَعْزِيرِهِ بِاسْتِمْتَاعِهِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَتَعْزِيزُهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ حد الزنا أَغْلَظُ مِنْ تَعْزِيرِهِ بِالْمُضَاجَعَةِ وَالْقُبْلَةِ وَإِفْضَاءِ الْبَشَرَةِ بِالْبَشَرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ حَدٌّ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِذَا اضْطَجَعَا فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ عَلَى الْمُعَانَقَةِ يُقَبِّلُهَا وَتُقَبِّلُهُ حُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَحِدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسِينَ جَلْدَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي نِلْتُ مِنَ امْرَأَةٍ مَا يَنَالُهُ الرَّجُلُ مِنْ زَوْجَتِهِ إِلَّا بِوَطْءٍ، قَبَّلْتُهَا وَعَانَقْتُهَا فَمَا يَجِبُ عَلَيَّ، فَتَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هُودٍ: 114] وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ حَدًّا، فَهَذَا حُكْمُ الزِّنَا وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي اللِّوَاطِ:
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي اللِّوَاطِ تعريفه: فَهُوَ إِتْيَانُ الذَّكَرِ الذَّكَرَ، وَهُوَ مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ تَحْرِيمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِلَى قَوْلِهِ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الْأَعْرَافِ: 80- 81]، فَجَعَلَهُ مِنْ سَرَفِ الْفَوَاحِشِ، وَلِذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ قَوْمَ لُوطٍ بِالْخَسْفِ وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمُ الْحَيَوَانَ الْبَهِيمَ حَتَّى لَا يَأْتِيَ ذَكَرٌ ذَكَرًا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ لَاطَ إِبْلِيسُ، أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَةِ فَرْدًا لَا زَوْجَةَ لَهُ لَاطَ بِنَفْسِهِ فَكَانَتْ ذُرِّيَتُهُ مِنْهُ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ، فَفِيهِ أَغْلَظُ الْحُدُودِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ فِيهِ، وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْحَجُّ وَلَا الصَّوْمُ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ إِلَّا أَنْ يُنْزِلَ فَيَغْتَسِلُ، وَيُعَزَّرَانِ وَيُحْبَسَانِ حَتَّى يَتُوبَا: اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ حَدٌّ، كَالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ: لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِعَقْدٍ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ حَدُّ الِاسْتِمْتَاعِ وَبِمِثْلِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الْحُدُودِ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا.
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِتْيَانُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ زِنًا. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ. وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةِ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ الصَّحَابَةَ فِيهِ، فَكَانَ عَلِيٌّ أَشَدَّهُمْ قَوْلًا فِيهِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ هَذَا إِلَّا أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهَا، أَرَى أَنْ يُحَرَقَ بِالنَّارِ. فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ إِلَيْهِ فَحَرَقَهُ. وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَ يَحْرِقُ اللِّوَاطِيُّ فِي خِلَافَتِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا حَرَقَ لُوطِيًّا وَرَجَمَ لُوطِيًّا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُلْقَى مِنْ شَاهِقٍ مُنَكَّسًا، ثُمَّ يُرْجَمَ بِالْحِجَارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا بَعْدَ نَصٍّ. وَلِأَنَّهُ فَرْجٌ مَقْصُودٌ بِالِاسْتِمْتَاعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ قِيَاسًا عَلَى قُبُلِ الْمَرْأَةِ. وَلِأَنَّهُ أَغْلَظُ مِنَ الزِّنَا إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِبَاحَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ فِيهِ حَدُّ الزِّنَا كَالزِّنَا. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزِّنَا. فَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَاحِشَةِ الَّتِي جَعَلَهَا زِنًا. وَأَمَّا اسْتِبَاحَتُهُ مِنَ الزَّوْجَةِ فَلِأَنَّ صِحَّةَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بِشُبْهَةٍ. وَأَمَّا إِيجَابُ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسِ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ. وَعَلَى أَنَّ فِي حَدِّ اللِّوَاطِ نَصًّا، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِيهِ اللواط فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِيهِمَا بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ. وَفِيهِ إِذَا كَانَا بَالِغَيْنِ قَوْلَان:
أحدهما:- نُصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ- أَنَّ حَدَّهُ الْقَتْلَ فِي الْمُحْصَنِ وَالْبِكْرِ. وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدَ: وَلِأَنَّهُ أَغْلَظُ مِنَ الزِّنَا، فَكَانَ حَدُّهُ أَغْلَظَ مِنْ حَدِّ الزِّنَا. فَعَلَى هَذَا: فِي قَتْلِهِ قَوْلَان:
أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ: أَنَّهُ يُقْتَلُ رَجْمًا بِالْأَحْجَارِ كَالزِّنَا: لِأَنَّهُ الْمَشْرُوعُ فِيهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ صَبْرًا كَالرِّدَّةِ تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ الْخَبَرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَقَلَهُ الرَّبِيعُ، وَقَالَ: رَجَعَ الشَّافِعِيُّ إِلَيْهِ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ كَحَدِّ الزِّنَا يُرْجَمُ فِيهِ الْمُحْصَنُ، وَيُجْلَدُ الْبِكْرُ مِائَةً وَيُغَرَّبُ عَامًا. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبِ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِيمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِيمَا اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ. وَيَسْتَوِي فِيهِ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرُ بَالِغٍ عُزِّرَ وَلَمْ يُحَدَّ.

.حُكْمُ السِّحَاقِ:

فَأَمَّا السِّحَاقُ تعريفه: وَهُوَ إِتْيَانُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ. فَهُوَ مَحْظُورٌ كَالزِّنَا، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي حَدِّهِ: لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: السِّحَاقُ زِنَا النِّسَاءِ بَيْنَهُنَّ. وَالْوَاجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ دُونَ الْحَدِّ: لِعَدَمِ الْإِيلَاجِ بَيْنَهُمَا.

.فَصْلٌ حُكْمُ إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ:

وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثِ فِي إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ حكمه، فَهُوَ مِنَ الْفَوَاحِشِ الْمُحَرَّمَةِ. رَوَى ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ. وَرَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ: إِنْ صَحَّ قُلْتُ بِهِ. لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ ضَعْفًا، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا قُتِلَ وَقُتِلَتِ الْبَهِيمَةُ. وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: يُقْتَلُ، وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: رَجْمًا بِالْحِجَارَةِ، قَالَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ.
وَالثَّانِي: صَبْرًا بِالسَّيْفِ، قَالَهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا. وَلِأَنَّهُ فَرَجٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِحَالٍ، فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الزِّنَا، يُرْجَمُ إِنْ كَانَ ثَيِّبًا، وَيُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ إِنْ كَانَ بِكْرًا؛ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا أَصْلٌ لِمَا عَدَاهُ. مُخَرَّجٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ الِاسْتِمْنَاءَ وَإِتْيَانَ الْبَهَائِمِ زِنًا، فَاقْتَضَى هَذَا مِنْ كَلَامِهِ أَنْ لَا يَكُونَ زِنًا، وَلَا يَجِبُ فِيهِ حَدٌّ، وَيُعَزَّرْ فَاعِلُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهَا تَمْنَعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا، وَلَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهَا.
وَالثَّانِي: لِنُفُورِ النُّفُوسِ مِنْهَا وَمَيْلِهَا إِلَى الْآدَمِيِّينَ، فَوَجَبَ الْحَدُّ فِيمَا مَالَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ، وَسَقَطَ فِيمَا نَفَرَتْ مِنْهُ النُّفُوسُ، كَمَا وَجَبَ الْحَدُّ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ لِمَيْلِ النُّفُوسِ إِلَيْهِ، وَسَقَطَ فِي شُرْبِ الْبَوْلِ لِنُفُورِ النُّفُوسِ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا: إِنْ جَعَلْنَاهُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ أَوْجَبْنَا الْغُسْلَ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ. وَإِنْ لَمْ نُوجِبِ الْحَدَّ، فَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْإِيلَاجِ في البهائم وَجْهَان:
أحدهما: يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ: لِأَنَّهُ فَرْجٌ مُحَرَّمٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا غُسْلَ إِلَّا بِالْإِنْزَالِ: لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمُبَاشِرَةِ فِي غَيْرِ فَرْجٍ. فَأَمَّا الْبَهِيمَةُ قتلها بعد إتيانها فَقَدْ أُغْفِلَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ قَتْلِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي حَدِّهِ، هَلْ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَبَرِ أَوْ الِاسْتِدْلَالِ؟ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ حَدَّ إِتْيَانِهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ قَتْلُهَا، إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَبَرِ. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَنَّهَا تُقْتَلُ إِنْ كَانَتْ لَهُ، وَلَا تُقْتَلُ إِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ. وَهَذَا الْفَرْقُ لَا وَجْهَ لَهُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمَعْنَى فِي قَتْلِهَا وَلَيْسَ عَلَى الْبَهَائِمِ حُدُودٌ؟ قِيلَ: لَيْسَتْ تُقْتَلُ حَدًّا، وَفِي مَعْنَى قَتْلِهَا أَمْرَان:
أحدهما: لِلسِّتْرِ عَلَى مَنْ أَتَاهَا، أَنْ لَا تُرَى فَيَقْذِفُهُ النَّاسُ بِإِتْيَانِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا تَأْتِيَ بِخَلْقٍ مُشَوَّهٍ، فَقَدْ قِيلَ: إِنْ بَعْضَ الرُّعَاةِ أَتَى بَهِيمَةً، فَأَتَتْ بِخَلْقٍ مُشَوَّهٍ. فَعَلَى هَذَا: تُقْتَلُ ذَبْحًا لَا رَجْمًا. وَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهَا إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةَ اللَّحْمِ وَجْهَان:
أحدهما: لَا تُؤْكَلُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِأَنَّ النُّفُوسَ تَعَافُ أَكْلَهَا وَقَدْ أُتِيَتْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُؤْكَلُ: لِأَنَّ إِتْيَانَهَا لَمْ يَنْقِلْهَا عَنْ جِنْسِهَا الْمُسْتَبَاحِ. وَهَلْ يَلْزَمُ غُرْمُهَا لِمَالِكِهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ، أَوْ كَانَتْ مَأْكُولَةً؟ فَقِيلَ: لَا تُؤْكَلُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا غُرْمَ لَهُ: لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ قَتْلَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَغْرَمُ لَهُ قِيمَتَهَا: لِاسْتِهْلَاكِهَا عَلَيْهِ وَيَكُونُ غُرْمُهَا، عَلَى مَنْ أَتَاهَا لِاسْتِهْلَاكِهَا بِفِعْلِهِ.

.فصل الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا:

وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا الزِّنَا وَاللِّوَاطُ فَلَا يُقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ عُدُولٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي رَجْمٍ أَوْ جَلَدٍ، عَلَى حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ: لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 15]، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النُّورِ: 13]. وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ حِينَ سَأَلَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَقْتُلُهُ أَوْ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، حَتَّى تَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، كَفَى بِالسَّيْفِ شَاهِدًا يَعْنِي شَاهِدًا عَلَيْكَ: وَلِأَنَّ الشَّهَادَاتِ تَتَغَلَّظُ بِتَغْلِيظِ الْمَشْهُودِ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ الزِّنَا وَاللِّوَاطُ مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ الْمَحْظُورَةِ وَآخِرِهَا، كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ أَغْلَظَ: لِيَكُونَ أَسْتَرَ لِلْمَحَارِمِ، وَأَنْفَى لِلْمَعَرَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسْمَعَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ علي الزنا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: تُسْمَعُ فِيهِ شَهَادَةَ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَيَجِيءُ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ أَنْ تُسْمَعَ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ يَصِحُّ: لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ رُخْصَةٌ فِيمَا خَفَّ وَهُوَ الْأَمْوَالُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُسْمَعَ فِي مَوَاضِعَ التَّغْلِيظِ.
فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فِي إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَمْ يُسْمَعْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ عُدُولٍ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُوجِبًا لِلتَّعْزِيرِ دُونَ الْحَدِّ، فَفِيهِ وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً دُونَ الْفَرْجِ وَجْهَان:
أحدهما:- وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ- لَا يُسْمَعُ فِيهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ: لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسٍ تَغَلَّظَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ: أَنَّهُ يُسْمَعُ فِيهَا شَاهِدَانِ: لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ الزِّنَا فِي الْحَدِّ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِهِ فِي الشَّهَادَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْمَعُ فِي اللِّوَاطِ وَإِتْيَانِ الْبَهَائِمِ وَوَطْءِ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ شَاهِدَانِ: بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ.

.الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الشَّهَادَةِ:

فَأَمَّا صِفَةُ الشَّهَادَةِ في الزنا فَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ: رَأَيْنَاهُ يَزْنِي. حَتَّى يَصِفُوا مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الزِّنَا، وَهُوَ أَنْ يَقُولُوا: رَأَيْنَا ذَكَرَهُ يَدْخُلُ فِي فَرْجِهَا كَدُخُولِ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ: لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَثَبَّتَ مَاعِزًا فِي إِقْرَارِهِ فَقَالَ: أَدْخَلْتَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا، كَدُخُولِ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَا فِي الْبِئْرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتَهُ فِي الْإِقْرَارِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْتَثْبِتَ فِي الشَّهَادَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشُّهُودَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَا لَمَّا شَهِدُوا بِهِ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُمْ أَبُو بَكَرَةَ، وَنَافِعٌ، وَنُفَيْعٌ، وَزِيَادٌ، فَصَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو بَكَرَةَ، وَنَافِعٌ، وَنُفَيْعٌ، فَأَمَّا زِيَادٌ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: قُلْ مَا عِنْدَكَ، وَأَرْجُو أَنْ لَا يَهْتِكَ اللَّهُ صَحَابِيًّا عَلَى لِسَانِكَ. فَقَالَ زِيَادٌ: رَأَيْتُ نَفْسًا تَعْلُو، أَوْ اسْتًا تَنْبُو، وَرَأَيْتُ رِجْلَاهَا عَلَى عُنُقِهِ كَأَنَّهُمَا أُذُنَا حِمَارٍ، وَلَا أَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. فَأَسْقَطَ الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَرَهَا تَامَّةً.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الزِّنَا لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا اللَّمْسُ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ فَلِذَلِكَ لَزِمَ فِي الشَّهَادَةِ نَفِيُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِذِكْرِ مَا شَاهَدَهُ مِنْ وُلُوجِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ.
فصل: وَإِذَا ظَهَرَ بِغَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ حَمْلٌ، وَلَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهَا بِالزِّنَا وَلَا أَقَرَّتْ بِهِ لَمْ تُحَدَّ، وَقَالَ مَالِكٌ: تُحَدُّ بِالْحَمْلِ: لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءٍ، وَظَاهِرُهُ: إِذَا كَانَتْ خَلِيَّةً، أَنَّهُ مِنْ زِنًا فَحُدَّتْ بِالظَّاهِرِ. وَهَذَا خَطَأٌ: لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ حَامِلٍ غَيْرِ ذَاتِ زَوْجٍ، فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ: لَمْ أُحِسْ حَتَّى رَكِبَنِي رَجُلٌ فَقَذَفَ فِي مِثْلَ الشِّهَابِ. فَقَالَ عُمَرُ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا شَابَّةٌ. وَلِأَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِكْرَاهٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زِنًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِالْأَغْلَظِ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تُسْأَلْ عَنِ الْحَمْلِ قَبْلَ الْوَضْعِ، وَلَا إِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا: لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِسُؤَالِهَا حُكْمٌ سِوَى الْحَدِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسْأَلَ عَمَّا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَى عَلَيْهَا: لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا حَيًّا سُئِلَتْ عَنْهُ حِينَئِذٍ: لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ، فَإِنْ أَقَرَّتْ بِهِ مِنْ زِنًا حُدَّتْ بِإِقْرَارِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.